من عاداتنا فى المشرق العربى أن نستقبل نهارنا ( بنفجال قهوة ) ، ونحتفل بختام يومنا بفنجال قهوة ، بأنفاس القهوة الحارة نلاقى أحبتنا ، وضيوفنا وبعبق بهارها ونودعهم ، تختلف طُرق إعدادها ، وأساليب شربها ، أما مكانتها فمحفوظةٌ ، وتقاليدُها مقدرةٌ من الجميع ، يورثُها جيلٌ لجيل .
بحضرتها نتهادى الأفكارَ والآراءَ ، ونحل كثيراً من قضايانا اليومية ، ورشفُ فنجالِ القهوة يتضمن توقيعاً على اتفاق مصالحة ، إن كان هناك خلاف ، أو فتحَ بوابة الإلفة لتعايش أكثر دفئا ، وحميمية بين الناس ، هى المشروب الاوَلُ فى البوادى خاصة ، والأرياف عامة ، والمدينة أيضاً ، لا يكون ديوان أو مضافة أو ضيافة مع غيابها ولأدواتها المكانُ الأقربُ لليد ولدلَتِها العنايةُ الخاصة ولا نسكابها فى الفنجال تطرب العيون وتبشُ النفوس ، وتراهشُ الروح ، هى شريكتنا فى ومضة التفكير وفى ولادة القصيدة وفى لمحة اللوحة ورفيقتنا فى نمو الرواية وتفاعل المسرحية وتحليق اللحظة المبدعة ، وهى الواحةُ التى نتفَسُ الصعداءَ بين احضانها ونسترخى جذلين بعد اجهاد وننفضُ عنا غبارَ العناء وصدأ الأيام فنستروحُ ونشفٌ ونرخى أجنحه الرٌوح ، أجود حباتها ( اليمنية ) فهى كالجواد العربى والغزال العربى والحسناء العربية كلها كائنات نائفةٌ ، لطيفةٌ ، رقيقةٌ ، ممشوقةٌ ، أنيقةٌ ، مرهفةٌ ، متالقةٌ ، حميمةٌ ، متوهجةٌ ، عروبٌ ، والبدوُ ورثةُ الشاذلى عشاقُها الاوائلُ .
ما أكثر ( مجانين القهوة ) بينهم ولكلً طريقتُه فى العشق وأسلوبُه فى التعبير وسويعاتُ تجلية ومحرابُ مناجاته بعضهم من يجاذب نجمه الصبح بتلويحات نارة فى هدأه الفجر فيوقَتُ السٌراةُ مواعيد رحلتهم على سناة ، ومنهم من يلاقى قرنَ الشَمس بماَذن دلالة الممتشقه ومنهم من يحتضن دلالة مع إقبال الليل ليحتفل بمعشوقته بحضرة القمر والنجوم ، أما فى المضافات فتجد فناجيلها منثورة على الصينية كالثريا وحولها عبادُها المنهكون يرشفون من قداستها وينظرون إلى موسم أخضر وما أكثر الاقاصيص والحكايات عن هؤلاء العشاق وما أحلى القصائد والأغانى التى أطربتهم على أنغام الرباب .
أدوات من التراث الطحاوي |
القهوة العربية تاريخ وتقاليد وحضارة :
على الرغم من أن القهوة تعتبر من أقدم المشروبات التى أستخدمها الأنسان إلا أنها تظل تفرض نفسها كمشروب مُحبب وخاص فى منطقتنا العربية رغم إستحداث المشروبات الجديدة ووجبات الطعام الحديثة ولا يعرف لماذا أطلق العرب كلمة قهوة على هذا الشراب ولكن علماء النبات يسمون شجيرة القهوة وهى الأصل الذى عرف من قبل فى اليمن كافيا أرابيكا ، ومن طريف ما يُروى عن تاريخ القهوة أن الحكومة الفرنسية سنة 1820م أرسلت ثلاث شجيرات ( بن ) من تلك التى كانوا يستنبتونها من بيوت زجاجيه بحديقة الفياتات بباريس لزراعتها فى جزر الأنيكال وهلكت أثنتان من الثلاث وبقيت واحدة فأخذ الربان يتقاسم مع الشجيرة الباقية نصيبة من الماء حتى تمكن من الوصول بها حيه ألى الأنيكال حيث زرعها ويسمي علماء النبات شجيرة القهوة كافيا ارابيكا وهى الأصل الذى عرف فى اليمن وهناك نوعاً آخر أشد مقاومة للآفات وأغزر محصولاً هو ( كافيا ربوبرستا ) كما أن هناك نوعاً يسمى ( كافيا ليبيريكا ) نسبة إلى جمهورية ليبيريا بغرب أفرقيا والروبوستا هى التى تغمر الأسواق على الرغم من أنها ليست فى جمال ولا نكهة قهوة الأرابيكا اليمانية الأصل وجاء فى تاج العروس أن البن بضم الباء كلمة مولدة أستعملها أصحاب العقاقير وقد وردت فى كلام داود الحكيم قال : "وثمر شجر البن يغرس حبة فى أذار وينمو ويقطف فى آب" ونحن نجد أن الشعوب العربية يهتمون بالقهوة أكثر من إهتمامهم بالشاى وفى البلاد العربية الشاربة للقهوة نجد فيها شيئاً مِن الإختلاف فى تناول القهوة فيما بين مصر والسودان نجد العبابدة والبشاريين يضيفون إلى قهوتهم الشىء الكثير من التوابل كالقرنفل ، الزنجبيل ، القرفة وحتى الفلفل الأسود حتى تكاد قهوتهم أن تكون فرقا ً، وهم كذلك يختلفون عن بقية العرب فإذا أقبل المساء وأناخت القافلة نجد كل رجل يجمع حطباً ويوقد ناراً ويحمص قهوته ويطحنها ثم يغليها فى الحبنة المصنوعة من الفخار أو الصفيح ثم يجلس وحده منفرداً ليشرب القهوة بينما نجد القوم فى غير ديار العبابدة والبشاريين يحافظون على شرب القهوة جماعة ولا يضيفوا إليها إلا حب الهيل أو النقاد مع قليل من القرنفل والزعفران وقد يضيف البعض شيئاً من دهن الورد وكلما أزداد المرء قرباً من الشاطىء العربى إلى الخليج يجد نسبة الهيل تزداد فى القهوة حتى انك ترى القهوة هناك صفراء لونها فاقع تسر الشاربين بينما هى أصلاً سمراء بنية ما عدا أقصى المشرق العربى .
ويصنع القوم قهوتهم فى وعاء من النحاس الأصلى يسمونه ( الدلة أو البكرج ) وهى صناعة يدوية أشتهرت بها كثير من الدول العربيه كدمشق ، الشام ، العقبة فى الأردن ، عمان والمنطقة الشرقيه من المملكة .
( بكرج قهوة طحاوى ) عليه شعار يقول ( مشغل عبدالله بحمص 49 ) والفنجال عقيلى يعود إلى عام 1935م وهذه الأدوات وغيرها من أدوات الخيل والقنص والتى كانوا يأتون بها من الشام مع الخيل ، وللقهوة آداب وتقاليد مرعية فلا تتعامل فى شربها الإ بيدك اليمنى أخذاً وإعطاء وفى منطقة الخليج خاصة لا يتوقف الساقى عن صب القهوة للضيف حتى يعيد له الفنجان الفارغ بيده اليمنى بعد هزة عدة مرات أما فيما عدا منطقة الخليج فأن للضيف ثلاثة فناجيل تباعاً وليس من اللياقة أن تملأ فنجان القهوة أو تضع فية سكراً ولقد إكتشف البدوى فى صحرائة بالتجربة والممارسة أموراً تتعلق بكيفية إستعمالها والمحافظة علي نكهتها ومسائل لم يدركها العلم إلا حديثاً ومن ذلك أولاً إن حفظ البن أخضر لمدة طويلة يزيد نضج المواد الفعالة فية وذلك خير من حفظة محمصاً أو مطحوناً بالاضافة إلى شرب القهوة على هيئة جرعات صغيرة متتالية أفضل من شرب تلك الكمية جرعة واحدة كما يفعل الفرنجة والعامل الثانى أن تحضير القهوة تحميصاً وطحناً وغلياً وشرباً فى حلقة واحدة أفضل من تباعد العمليات تلك وكان العلماء يظنون إلى عهد قريب أن المادة الفعالة فى القهوة هى ( الكافايين ) ولكن أبحاثاً ما زالت تجرى فى أستراليا تشير إلى وجود مادة فعالة أخرى لم يتم تحديدها بعد .
ومن عجب أن القوم الذين علموا العالم شرب القهوة وهم أهل اليمن يفضلون شرب مغلى قشور القهوة ويقولون أنها أذكى شراباً وكان أول ظهور للقهوة فى مصر فى حى الجامع الأزهر فى وكانت تشرب فى نفس الجامع برواق اليمن كل ليلة إثنين وجمعة ويضعونها فى ماجور كبير من الفخار الأحمر ويأخذ منها النقيب بسكرجة صغيرة وإنتقلت مع التجار إلى الشام ومن الشام إنتقلت إلى تركيا بواسطة إثنين من أبناء الشام هما ( حاكم وشمس ) الذين حققا مكاسب طائلة من تجارة البن وإقتحم المقهى الحياة الإجتماعية التركية وفى ظل الدولة العثمانية نقلها الأرمن واليونانيون إلى بقية الدول الأوروبية وإستقر وجود المقهى في الحياة الإجتماعية وإحتل مكاناً بارزاً فى دنيا الناس وجذب إهتمام اولئك الرحالة الذين تجولوا فى الشرق مدركين أهمية المقهى فى الحياة الإجتماعية العربية ولم يفتهم طريقة إعدادها وتقديمها فهى تقدم ساخنة لشاربها ويعطية الحق فى الجلوس والسمر وتقوم المقاهى فى كل من سوريا والعراق وسط الحدائق تحيط بها المناظر الخلابة وقيل ان المقهى يجمع صغار القوم وكبارهم والاراذل الذين يروجون الاكاذيب ويغتابون الناس ويلعبون الشطرنج والطاولة .
ذكر مؤيدوا شرب القهوه بيان منافعها وذكروا أن مداومة أكل البن يقوى النظر والفهم ويرفع الجدرى والحصباء والسحر ويقول الرحالة البريطانى ( إدوارد لين ) الذى وصف مقاهى القاهرة فى مطلع القرن التاسع عشر وقبل أن يلحقها التغيير يقول أن المقهى هو المجتمع الأدبى عامة وهى بصفة عامة حجرة صغيرة ذات واجهة خشبية ، يقوم على طوال الواجهة ما عدا المدخل مصطبة من الحجر أو الآجر تفرش بالحصر ويَبلغ إرتفاعها قدمين أو ثلاثة ، وجمهور المقهى من الطبقات الدنيا والحرفيين وصغار التجار ويحمل كل منهم شبكته الخاصة وتبغه ويقدم القهوجى القهوه بخمسة فضة ( للفنجان الواحد ) ، وبظهور المقهى إنتعش فن الكلام بالفرصة التى قدمها أتاحت الفرصة للحديث الجاد أو حتى لمجرد الثرثرة والسمر إذا كان لديك ما تقوله فتعثر على من ينصت إليك ويمكن أن نتبين هموم الناس ومشاغلهم من خلال الكلمات المتناثرة من أفواه رواد المقاهى وأظهرت صاحب موهبة الحديث الطلى الحلو الذى يسعده إقتناص مستمعين جدد ، كما قدمت القهوه منبراً لأصحاب المواهب الأدبية وعرفت بعض المقاهى بالشعراء والأدباء المترددين عليها وقدمت صوراً مبتكرة للتسلية مثل الراوى أو العازف الذى يتقاضى أجرته من الرواد وأدت إلى إنتعاش القصص الشعبية وسجل إدوارد لين الرحالة وكريستين يشور الوصف التفصيلى للفن الذى يقدم فى مقاهى القاهرة وأكد الرحالة أن الموسيقى كانت تقدم فى كل من مقاهى مصر ، الحجاز ، الشام والعراق .
وها هو عالم المقاهى الرهيب يوشك على الإندثار أمام الحياة الحديثة وأمام النوادى والمحال التى تقدم المشروبات ووجبات الطعام السريعة فهل ستختفى المقاهى التاريخية التى شهدت العديد من الأحداث السياسية والفنية وقد حان الوقت لكى يقدم باحث عربى تاريخ المقاهى أى تاريخ الحياة الإجتماعية إلى عالمنا الشرقى .