مما لا يختلف فية إثنان شيوع تعاطى البن فى أنحاء بلاد الشرق ، فإن الشرقيين يقدمونها إلى جميع الذين يحق لهم الحضور فى مجالسهم ، فالباشا الذى يتلقى فى دار حكومتة أميراً خطيراً أو عظيماً من العظماء أو قاضياً جليلاً يقوم نحوهم بهذا الواجب الأدبي ، يكفى أن يلفظ بكلمة القهوة ليكررأحد كبارالخدمة هذة اللفظة خارج الغـرفة بصوت جهوري مستطيل ، وفى هذا النداء دلالة على الإحترام العظيم لشخص الزائر .
أما إذا كان المزور أقل من ذلك شأناً وأحط رتبة فليقتصرعلى طلب القهوة بنفسة واصفـاً إياها بوصف الجودة ، ونشرب القهوة فى آنية صغيرة من الخــزف الصينـي تسمى بالفناجين ، ( وهى تنطق وتكتب فناجيل أيضاً ) وهى تشبة قشرالبيضة مقـطوعة نصفين من وسطها ، وتوضع الفناجين فى قوائم يسمونها بالظروف وهى أشبة شيء بالآنية التى يوضع فيها البيض ( النمبرشت ) ، والظروف تصنع عادة من الفضة أو الذهب أو المينا ، وترصع أحياناً بالأحجار الكريمة .
وعند الفقراء يكون الفنجان من الخزف الصينى والظـرف من النحاس ، وتصُف عشرة فناجين إلى إثنى عشرة فنجاناً ، وقدر هذا العدد من الظروف على محيط صينية من النحاس أو الفضة ، ترتـفع بوسطها تنكة القهوة ( ونقول عنها نحن الطحاوية كنكة ) التى تتخذ من أحد تلك المعادن ، وتغطى الصينية عادة بقـطعة مستديرة من القماش المزركش بالذهب أو بغيرة بحسب مقدرة رب المنزل ، ويقوم الخدم أو العبيد بصب القهوة فى الفناجين ، ثم بتقديمها إلى الحاضرين ممسكين الظُرف من أسفلة بأطراف الأصابع فيتلقى الزائر الفنجان بالقبض على الظرف بالإبهام والأصابع الثلاثة التالية لة من اليد اليمنى .
وتقدم القهوة فى أول الأمر إلى الشخص الذى يؤهلة مقامة أو رتبتة أو ثروتة لأن يحوز شرف الأسبقية على غيرة فى الخدمة ، فإذا وجـُد بين الحاضرين أكثر من واحد يستحقـون هذا الإعتبار فإن فناجين القهوة تقدم إليهم فى آن واحد ، وعليهم قبل تناول الفنجان الذى يقدم إليهم أن يحيوا بعضهم بعضا ، أما إذا كان الزائرون أحط مرتبة من المزور فلا يصح تقديم القهوة إليهم إلا بعدة بحسب ترتيب مجالستهم منة ، والواجب عليهم فى هذة الحالة أن يحيوا صاحب البيت بالإشارة قبل تناول الفنجان ، وكلما تلقي تحية أجاب عليها برفع فنجانة إلى مؤازاة ( موازاة ) وجهة ، وعلى إثر هذة المظاهـرالأدبية يشـرب كل القهوة التى قدمت إلية ، ولا ينبغى فى شرب القهوة أن تشـُرَب إلا مصاً بطرف الشفتين ومن غير إمالة الفنجان ومن يـريد من الحاضرين إظهار الإحترام للمزور بإعتبار كونة أرفع منة شأناً ، فعليـة أن يتحول برأسة عـنة تحولاً خفيفاً وأن لا يشرب من القهوة إلا الشيء اليسير منها .
وقد سرى قانون الآداب الإسلامية حتى على الكيفية التى ينبغى أن يرد الفنجان بمقتضاها إلى من قدمة ، فإنة يقتضى فى حالة إبتعاد الذراع عن الجسم لرد الفنجان ، أن يكون هذا الإبتعاد خفيفاً وأن لا يصحبة كلام مع الخادم وأنة متى تناولة هذا الأخير منة يؤدى إشارة التحية كما أداها وقتما قدم إلية ، وقد ألف الخدم فى أخذ الفنجان عادات وطرق تشبة التى يقدمونة بمقتضاها رقة وأدباً ، ذلك لأن الفنجان لا يحتوى على بروز خارجى ، بأنة حينما يتلقاه يفعل ذلك بحـركة لطيفة بوضعة يدة اليمنى على فتحة الفنجان وتركيزة قاعدة الظـُرف على يدة اليسـرى ، ولا يجوز التحدث مع رب البيت فى عمل إلا بعد شرب القهوة ، فإذا إبتدرة الزائـر فى الحديث فى المصلحة التى ساقتة إلية قبل ذلك ، كانت هذة المسارعة تهجماً لا مبرر لة بل مسلكً لا يليق بالمتأدبين .
وهذة العادة يستند البعض إليها فى إقامة الدليل على كسل الشرقيين ودعتـهم وتهاونهم والتى تبدو أول وهلة أنها مضيعة للوقت فيما لا جدوى منة ترتجى ولا تخلو من الفوائد ومن المزايا ، لأنها تـفتح للزائر والمزور معاً طريقاً للإنتقال الصالح من المشاغـل التى كان خاطرهما مشتغلاً بها قبل الزيارة والتى سيشتغلان بها فى خلالها ، وبهذه المثابة لا يحسب المزور أن الزائـر آخذه بـزيارة إياه فى الوقت غير الملائم أو فى الأوان الذى كان لا يتوقع فية زيارتة على غرة منة ، لأنة بما ينقضى من الوقت أثناء تعاطى القهوة يكون قد أخذ الأهبة للمفاوضة فى الموضوع الذى يعرف أن زائرة جاء من أجلة وإستعد له إستعداداً فكرياً ، ومن جهة أخرى فأن الزائر نفسة يجد أثناء تعاطية القهوة فسحة من الوقت للتمعـن فيما سيلقية من القول على المـزور وتنسيقة على الوجة الذى يراة أسهل تناولاً على الفهم أو أبلغ فى الإقناع بالحجة ، وإذا فـُرض أن أحدهما أو كلاهما كان حينما وقع نظرة على صاحبة قد ثارت فى نفسة ثائرة الغضب ، أو إعتراة الحيـاء أو تملكتة إحدى العواطف المؤثرة فى النفس ، فإن الوقت ينقضى فى تبادل التحيات والتسليمـات وشـرب القهوة يمهد للغاضب سبيل الفيئة إلى السكون والحلم اللذين لابد منهما فى كل مفاوضة أو مناقشة .