ـ موضوع يحكى أوضاع سباق الخيل فى مصر فى
النصف الأول من القرن الماضى .
الحظ يقتفى أثر جواد فى ميدان السباق ، إنه
ينتقى أسرع جواد فى الميدان فيسرع إلى ملاقاته عند نهاية الشوط ليمسه بعصاه
الساحرة ، ويندفع ألاف البشر إلى الجواد بعضهم راضً وبعضهم ساخط وكما حقق الجواد
الفائز آمال احدهم فقد خيَب ظن أكثرهم وبينما الخاسر يمزق تذكرته ينهال كوم من
الذهب على رأس الجواد فيسير فرحاً طروباً لا يشعر بالفرحين له ولا بالساخطين عليه
، إن جياد السباق عادة مدللة لا تأبه كثيراً لمتاعب البشر، ومتاعب البشر تبدأ فى
نفس الوقت الذى يبدأ فيه بحثهم فيه عن جواد جديد يغرى الحظ بأن يجرى وراءه .
نجم جديد
ربما كانت قصة حياة (إبن نعامة) هى قصة كل جواد سباق جديد ، ولقد
بدأت قصة حياته بإجتماع صغير حضره سبعة أو ثمانية من ذوي الحيثيات الضخمة ولا داعى
لذكر إسمائهم وبدأوا يبحثون فى إحتمال السعى وراء جواد جديد من نعامة وكانت نعامة
هى الفرس التى كسبت كل سباقات الموسم الماضى والموسم الذى سبقه وكان بينها وبين
الحظ غرام ولكن نعامة أصبح عمرها الآن ثمانى سنوات وهذه هى سن التقاعد تقريباً
وربما كان فى قدرة نعامة على أي حال أن تورث إبنها غرام الحظ مثلها .
من هنا كان هذا الإجتماع وكان مشكلة السبعة
أوالثمانية الذين حضروه من ذوي الحيثيات والنفوذ هى : من هوالسعيد الذى يختارونه
لكى تنجب منه نعامة النجم المنتظر، ويأخذ أحدهم فى تعداد أنساب نعامة للجد العاشر
وما بعده ثم يسأل فى حيرة كيف يمكن أن يوجد الجواد الذى يستحق كل هذا المجد، لابد أن يكون هو الآخر جوداً له ماضى، ويقترح أحدهم إسم الجواد (شعلان) الذى تمتلكه
الثرية الإنجليزية مس بلنت ، ولكن الجواد فى إنجلترا ويقترح أحدهم مفاوضة مس بلنت
فى بيعه ، ويفضى الإجتماع بعد الإتفاق على صيغة برقية ترسل لمس بلنت هل تقبل بيع
شعلان نحن نعرض ألفى جنيه . وترد مس بلنت معتذرة أن (شعلان) قد إستعارته مراعى قصر
وندسور لكى ينجب لملكة إنجلتر المقبلة نجوماً جديدة وينعقد الجمع من ذوي الحيثيات
مرة أخرى ثم يهتدى أحدهم إلى حل :إن (خير) الجواد الأصيل الذى تملكة الجمعية
الزراعية الملكية يستطيع أداء هذه المهمة وتبدأ مفاوضات مع الجمعية الزراعية ،
ويعود الجمع إلى الإنعقاد : لقد قبلت الجمعية أن يحضر (خير) إلى موعد غرام مع
(نعامة) نظير 10 جنيهات
الفرس نعامة
وينتهى الرأي إلى القبول ويحين اليوم المنتظر
ويقف الجمع من ذوي الحيثيات فى الفناء ويأتى (خير) وتخرج (نعامة) من حظيرتها ، ثم
تحدث مفاجأة أن نعامة تعرف نفسها وتشعربجمالها وترفض أن تلقى نظرة على (خير) ويقبل
الجميع يشجعون نعامة وهى تصرعلى الدلال، ثم يجن الليل وقلبها لا يرق له فيمضون به إلى
حظيرته بعد أن يقبض أصحابه أجر الزيارة ، إنها لم تكن مُجدية ، هذا صحيح ولكن ما
ذنب أصحاب (خير) فى دلال نعامة ... ويحدد موعد ثانى ثم ثالث وتنزل نعامة أخيراً عن
كبريائها ودلالها ويمر شهر أو أكثر قليلاً . وذات يوم ينعقد الجمع من ذوي الحيثيات
مرة أخرى ويدخل عليهم أحد الخدم ويصيح مبهورالأنفاس ويفهمون منه أخيراً أن نعامة
تنتظر حادث جديد .. ويندفع كلً منهم يعانق زميلة مهنئأ أن النجم فى الأفق
ـ فى موضع آخر من المجلة :
المهتمون بشؤن السباق ينتظرون بصبر فارغ
جواداً جديداً يتوقع له الخبراء مستقبلاً عالمياً ربما فاق مستقبل الجواد العالمى
المشهور(ربنارد بلو) والذى كان يملكه عبود باشا ، والجواد الجديد بلا إسم حتى
الآن فإن أصحابه يسمونه إبن (نعامة) نسبة إلى أمه ، فإن عمره لا يزيد عن عام ونصف
ولا تزال أمامه فترة طويلة قبل أن يدخل السباق .
ولقد كانت أم هذا الجواد ـ نعامة ـ نفسها من
أعظم الجياد التى شهدها السباق فى مصر ثم تقاعدت بعد تاريخ حافل طويل ورأى أصحابها
أن يستمر نشاطها من إبن لها ، وهكذا بدأوا
يبحثون لها عن زوج أصيل ، وقد إنتزع ملك إنجلتر زوج نعامة أوالمرشح الأول لزواجها
وهو الجواد العالمى (شعلان) الذى تملكه مسز بلنت شقيقة المستر بلنت ، وهى أيضاً
خالة الصحفى الإنجليزى المعروف (ريتشارد ويندهام) الذى قتله اليهود أخيراً فى
فلسطين .
وكان أصحاب نعامة قد خطبوا لها (شعلان) ، يحضر إلى مصر فى زيارة قصيرة أو تذهب إليه نعامة ثم يرتب بينهما اللقاء ، ثم تلد نعامة ، وهنا جاء دور ملك إنجلترا وهوايته للجياد وكان جلالته قد رأى أن يستعير (شعلان) من صاحبته مسز بلنت وأن يرتب له عدة لقاءات مع ثلاث فرسات يملكها جلالته فى قصر وندسور ، وهكذا أبلغ أصحاب نعامة أن (شعلان) مشغول ... مشغول فى قصروندسور ..وأخيراً وجدوا لنعامة زوجاً جديداً هو الجواد القديم (خير) الذى تملكه (الجمعية الخيرية الإسلامية) ـ وفى موضع آخر ـ الجمعية الزراعية الملكية ،وإشترطت الجمعية أن يكون ثمن زيارة (خير) (لنعامة) عشرة جنيهات وتم الإتفاق ولكن نعامة رفضت أن تستسلم من أول نظرة ..ودفع أصحابها عشرة جنيهات بلا فائدة ، ثم دفعوا عشرة ثانية وثالثة ، وفى العشرة السادسة وضعت نعامة فى عينها حصوة ملح .
نجوم فى الطريق
ومع ذلك فهذه ليس قصة كل جواد من جياد السباق ، وقصص البحث عن جياد السباق الجديدة الأصيلة تشبه إلى حدد كبير قصص البحث عن نجوم للسينما . ذات مرة كان سيمون مدرب الجياد المشهور يسير فى سيدى جابر بالإسكندرية إذ رأى جواد يجر عربة صغيرة وكان عمر الجواد ثلاث سنوات وإشتراه سيمون كان الجواد عربياً أصيلاً وبعد عام واحد كان إسم الجواد (عناز) فى طليعة جياد السباق وبعد ثلاثة أعوام كان مجموع الجوائز التى ربحها (عناز) عشرين ألفاً من الجنيهات وعدد الجنيهات التى دارت عليه رهاناً وربحاً وخسائر يتعدى المائتي ألف ، وهناك عدد كبير من الخبراء مهمتهم أن يضربوا فى بلاد العرب طولاً وعرضاً بحثاً عن جياد تصلح للسباق وفى كل عام يرسل هؤلاء إلى القاهرة مائتي جواد جديد بعضها يبررالآمال التى عقدت عليه ويجمع إلى الطليعة، وأكثرها يكبو ويشرد قبل أن يصل إلى نهاية شوط الحظ .وترسل إسطبلات إنجلترا وفرنسا كل عام إلى القاهرة عدداً من النجوم الجديدة من جياد السباق وفى هذا العالم تسلمت القاهرة أربعين منها دفعت فيها ألف جنية لكل جواد .
آلهة من الخيول
ومهما ىتكن الطريقة التى يتم بها إكتشاف
النجم الجديد أو صنعه فإن الدنيا تقبل عليه كشأنها مع كل جديد . يلقى الجواد حجرة
تعد له وميزانية تصل إلى عشرين جنيهاً كل شهر ترصد من أجله وخادماً خاصاً يعين لخدمته ثم مدرباً يشرف على رياضته وطعامه
وعلاجه وبعض أصحاب الخيول كان لا ينام الليل لأن جواده المفضل مصاب بالإمساك وربما
كان هو نفسه ـ صاحب الجواد مصاباً بالإمساك ولكنها مشكلة محتملة بالنسبة إليه أما
بالنسبة للجواد ... لا . لقد وصلت قيمة المبالغ التى صرفت على علاج ع الجواد (نمران)
الذى كان يملكه البارون (أمبان) أكثر من ألف جنيه ومع ذلك فلا يزال مزاج (نمران)
رقيقاً لا يحتمل لفحة هواء .. وكان البارون (امبان) يحرص على أن يطعم خيوله خضراً
وفاكهه حتى تكسب ما فيها من فيتامينات ، ولقد أصبح هناك خبراء تخصصوا فى العناية
بالجياد. أحدهم مثلاً روسى إسمه (فرانك) كان ضابطاً فى البوليس المصرى فلما خرج من
الخدمة تخصص فى تدليل الجياد وهى عملية مربحة يكسب منها (فرانك) أكثر مما يكسب
المارشال ستالين ...فمرتب فرانك هو ثمانون جنيهاً فى الشهر .وهناك كثيرون من قبائل
العرب كل مهمتهم حفظ أنساب الجياد آبائها وأمهاتها والشهور التى ولدت فيها وصلة القرابة التى بين كل منهما
وبعضهم يستشار فى كل عملية للتوفيق بين رأسي جوادين فى الحلال فتسير للعروس
بالجواد الذى يصلح له ويتفق دمه ومزاجه مع دمها ومزاجها وأجرة الخبير هنا عشرة
جنيهات عن كل إستشارة وهو مبلغ لا يتقاضاه أي مأذون شرعى فى دنيا البشر .
مملكة الأقزام
وينتهى إعداد النجم ثم يبقى إختيار (الجوكى)
الذى يقفز به إلى السماء ، إن (الجوكيات) ملوك من الأقزام لهم تيجان من الذهب ، إن
الواحد منهم يكسب كل عام أكثر من وزنه ذهباً ، لقد قدروا أرباح موريس سيلاج أشهر (الجوكيات)
بخمسة آلاف من الجنيهات فى عام واحد ، ولقد غادر سيلاج القاهرة إلى ميدان (لوثنان) بباريس وفى جيبه عقد بخمسائة جنيه فى الشهر هذا غير نصيبه فى الأرباح والمكافآت
والرسوم العادية ،وهناك غير سيلاج فى مصر كثير من الرجال ليس عليهم إلَّا أن
يكونوا أقزاماً نحيلة لا يزيد الواحد منهم على أربعين كيلو جراماً ثم عليهم بعد
ذلك أن يتصفوا بالجرأة والشجاعة ثم لا يمدون أيدهم لكى يكسب كل منهم وزنه ذهباً ،
ومن سوء الحظ أن ليس هناك من (الجوكية) من المصريين إلَّا قصة واحدة ناجحة ، لقد حاول كثيرون لكنهم
فشلوا ما كاد الذهب يجرى فى أيديهم حتى إندفعوا فى سباق مع الهوى فخسروا القد
النحيل والأعصاب القوية والذهب، واحد منهم
فقط نجح وقصة نجاحة مثال رائع ، إسمه عبده مصطفى بدأ خادماً فى إسطبل وكان عمره
خمسة عشرعاماً ثم بدأ يركب وبدأ يتدرب ويعد نفسه ومنذ عامين أعترف به (جوكياً) .
وهواليوم يربح ستة آلاف جنيه فى العام وكان أجره منذ أعوام قليلة ستة قروش فى
الأسبوع ..عبده مصطفى اليوم فى الثالثة والعشرون من عمره فقط وقد تزوج ولديه الآن
ولدان صغيران يقول أنه سوف يلحقهما بأحد الإسطبلات ليصبحا (جوكيين) ويضمنا
مستقبلهما .. والذين يفهمون فى السباق يقولون أن هذه صناعة لها مستقبل كبير فى مصر
...فإن معظم (الجوكية) الآن من الأجانب وبعضهم أوشك أن يصل إلى سن التقاعد من هنا
كان الميدان فسيحاً أمام الذين يرغبون من الشبان المصريين خصوصاً إذا كان لدى
الواحد منهم قسط من التعليم
دافعوا الذهب
وربما كان أهم الناس فى صناعة الحظ الذى
يقتفى آثار الجياد هم الطائفة التى تبعثر الذهب ، إن الأموال التى صُرفت على
إسطبلات خيول السباق مبالغ لا يصدقها الخيال : عبود باشا صرف على إسطبلاته حتى
اليوم مائتى ألف جنيه ، والبارون أمبان
صرف على هذه الهواية ما يقرب من نصف مليون ، ومحمد سلطان بك صرف أكثر من مائة ألف ،
ومثلهم كثيرون وكثيرون والذهب الذى يجرى فى ميدان السباق أنهاراً لا أول لها ولا
آخر .. إن بعضهم لا تقف به هوايته عند حد ، ذات مرة كان للخديو عباس الثانى جياد
تجرى فى السباق وكان يعنى بها عناية فائقة وكان من منافسى الخديو صاحب إسطبل إسمه
(احمد ايش) وكانت جياد أحمد أيش تربح كل سباق تدخله وتتفوق على جياد الخديو ، وفى
أحد الأيام حدث الأمر الذى كان يضايق الخديو أكثر من سواه وخسرت جياده وربحت جياد
ايش فإذا الخديو يستقل مركبة إلى إسطبلات ايش
ليسأله لما تفوز جياده وهى لا تلقى نصف العناية التى تلقاها جياد الخديو؟ ويرد
أحمد ايش فخورأ بخيوله : يا مولاى إن خيول الأمراء ليست أمراء الخيول
الجمهور
واخيراً يجئ دور الجمهور ،المراهنات والحظ
والحياة العجيبة التى فى ميدان السباق ، إن ميدان السباق صورة رائعة مثيرة من صور
الحياة قصص إدعاء وقصص خيانة وقصص غرام وقصص حظ وقصص أخرى كثيرة ليس لها عد ولا
حصر . إن المال يجرى بلا حساب بعضهم يراهن ليكسب وبعضهم يراهن ليتسلى ومعظمهم
يراهن ليخسر ، ولقد وصلت المبالغ التى تدور فى
ميدان السباق كل عام إلى مليونين
من الجنيهات وبلغت ضريبة الحكومة من المراهنات فيها 150 ألف جنية ويدفع الهوس ببعض
الناس إلى حد حفظ أنساب الجياد التى تجرى وتحرى أنسابها وكيف تعيش لكى تجيئ
المراهنة على أسس وقواعد وبعض الجياد يحقق أمل الطامعين ، كان (راديو) لا يخسر
سباقاً وكان أسطورة فى ميادين السباق منذ عشرين عاماً وكان (سيرجنت ماجو) الذى
يملكه البارون أمبان ماردأ لا يلحقه به جواد آخر لدرجة أن البارون أخذه معه ذات
صيف ليصطاف فى فرنسا . وكان (بلانس) و (رينارد بلو) جواد عبود باشا المدلل ولغيرهما
أسماء كالطبل دوياً وصدىً ...ومع ذلك فكم خابت آمال وتاريخ ميدان السباق بحالات
الجياد التى علقوا عليها أحلاماً جساماً ثم بدأ شوط الحظ وإنهارت الأحلام .. وبعض
الجياد التى لا تلفت النظر ولا تثير الأمل تفاجيء أصحابها بمفاجآت سارة فى أعلب
الأحيان ،وقصة الجواد (حبيش) تجرى على كل لسان لم يكن فيه شيء غيرعادى ثم بدأ شوط
الحظ إذ و(بحبيش) فى المقدمة ودفع الريال مائة جنية ، ومع ذلك فإن بعض الآمال تخيب
غصباً عن الجياد لن يعدم كل جواد خصماً يهمه أن يفشل ومن هنا تبدأ مؤامرات أشبه
بمغامرات الجواسيس ويخيب أمل الجمهور .
خاتمة المطاف
تنتهى القصة بالنسبة للجمهور أما بالنسبة إلى
الجواد السعيد فإن لها بقية تمضى لسنوات ثم يكبر الجواد ولا يعود بعدها صالحاً للسباق ويبدأ التفكير فى التخلص منه ببيعه ، وبعض
جياد السباق المجيدة القوية ذات الماضى يحولها أصحابها إلى باعة غرام لكل فرس يريد
لها أصحابها ذرية سعيدة ، وبعضها يباع للسوارى فى الجيش أو فى البوليس وبعضها يباع
للجمهور ، ويروى (المسيو شاؤل) قصة جواد كان إسمه يوماً على كل لسان كان إسمه
(عفريت الليل) كان جواداً أسود كالليل، مارقاً كاعاصفة، طاغياً كروح المحيط فى
جبروته، ودخل الميدان وإكتسح كل منافس له
وإنهال عليه المجد والورد ثم مضت الأيام وأصبح عفريت الليل عمره عشرسنوات وتخلص منه صاحبه وباعه ومنذ أيام كان المسيو
شاؤل يركب سيارته فى شارع سليمان باشا ثم أقبلت إحدى عربات النقل الكارو يريد
سائقها أن يعبر بها الشارع ، تصدى له جندى المروريأمره بالعودة من حيث أتى ، ونظر
شاؤل إلى السائق وهو يضرب جواده ليصب عليه غضبه ونقمته ، وكان الجواد العجوزهو (عفريت الليل)...
ـــــــــــــــــ
مجلة آخر ساعة
1947 ، ص 1336، 1949