الحروف الساكنة
المرأة من داخل النصوص الشعبية
من قال أن الحروف ساكنة ؟ إنها تسبح فى فضاءات
المعاني ، حروف ترسم الحقائق ، وحروف تروي الوقائع
، وجميعها تأتلف لتـُخرج لنا المعاني الجميلة
المرأه فى أشعارهم
قلت إلها يا عين إنسيه *** تساهينــى وتسيل عليه
كل الأشعار المأثورة عن عـرب الطحاوية ، وقبل أن
يُسَمون بهذا الإسم ، نوعان ، منها ما هو حماسي وأقوال
وأسُميها أقوال العرب ، ومنها ما هو (المجاريد) ، فهى أيضاً
قصائد والغرض منهما واحد ، إلّا أن أقوال العـرب كانت وليدة موقف
ولحظة ، فأحياناً تكون منظومة على شكل القصيدة وأخرى نثرية ويكون
موُضوعها واحد . أمّا المجرودة فدائماً تتطرق إلى أكثر من موضوع
ولا تخلو أيً منهما من التعـريج على ذكر المرأه أوالتلميح لها . فنظم
الشعـرلا يأتي من فراغ . إما يأس ، أوحب وعشق حتى الوله ،
حيث كثير من القصائد مجنونة فى كل معانيها .
اللي يكترّ من الحب عليل ***** اللي يُخش الغارق غـرقان
* كنت أول صغير يقف فى صف الكباروهم يُصفقون ويتمايلون
ويُهنهنون ، والنساء تُذغـردن وأنا أؤدي وأردد ما يقولون وأتفرَس
وجوهم وهذا القول الذى بدا غـريباً بالنسبة لي ، وأحفظ وأدوّن ،
وعلى مَرأكثر من ثلاثون عاماً وأنا أحد أعلامه ولا فخر ، فقد تجرّعت
الصنعة من الكبار ، ولكن بعين الباحث المُوثق ،
المُدقق
والمُثقف ، الواعي الفنان أيضاً ، حتى جمعت منه
الكثيروالكثير ، وصنفته وعملت له مقارنات ونشرت منه موضوعات ،
حتى تأكد لي أن ما تحت يدي منه الآن غيرمتوفـر بالمرّة لأي أحد أوفى أي قطر
. فعمَدت على طباعته والتعليق عليه ودراسة الحقبة التاريخية التى
تولدت فيها هذه النصوص (1850/1925م ) ، وذلك من خلال المفردات
الموجودة فيها ، ومنها العمُلات والوُلاة والذهب والفضة ومصاغ المرأه
وأزيائها والأدوات المستخدمة فى زينتها والرتب العسكرية . من كل ذلك
إستطعت أن أحدد الفترة التاريخية .وأيضاً من خلال كل ذلك وجدت أن البدوي
يستأثر من الخيل الفرس ( الولاّدة ) من دون الحصان ، فهو يرى أن الفرس
معين دائما ماينضح له الأصائل من الخيل ويجلب لصاحبه العز والفخار .
فالشاعـر ( المصواب ) والذى يقف فى الصف لابد أنه يحمل قصة حب تملكه بكل
مشاعـره ، فعندما يبدأ الكف وتأتي الحجّالة يُفرغ ما بجُعبته من لوعة
وشوق إلى محبوبته وذلك كله فى شخص الحجّالة ، فالحجّالة تستقبل كل
الآهات والمعاني والمفردات وكل ُصنوف الغزل وأبواب الشعر ، منها الهجاء
والمدح وما تلىَ ذلك . كل ذلك يُحمّلها إيّاهاه الشاعـروهو ُيلوّح بيديه
، ويغمز بعينيه ، ويدغدغ بعض الكلمات ،
ويُفصح عن الأخرى ويعيد وكأن الحجّالة هى رسول الغرام ، فالحجّالة
هنا هى كل شئ كما أن لها تاثير بالغ على الحضور ، والتأثير الأكثرهوالإشعاع
الذى يأتي من المجلس المُظلم للحريم إلى الرجال مباشرة ، فلابد أن
هناك ترددات متبادلة تزيد من حماس الشاعـر وتلهب قريحته فلا يجد أمامه مُوصّلاً
غير الحجّالة . هناك الكثيرالذى يدور وراء الكواليس ولا أحد يشعـر بذلك
إلّا من به عَلَل من الحب والعشق ،
وأيضاً
المُمَارس القديم والذى يشعـرالنجوى ويحسُّها . قمت بنخل هذه القصائد
بعدما إستحضرت أضيق المناخل الموجودة ، حيث أريد أن أخلـُص منها إلى
ما قيل عن المرأة ، فكان لابد من المنخل الحرير ، ثم تابعت
النخل مرات حتى خلصُت إلى ما قيل عن القنص والخيل أيضاً ، وكل
مايستحق أن أنقله لكم وبشكله الجديد . والآن معي ما قيل عن المرأه فى
قصائدهم ، فعُذراً أنني هنا لن أدغدغ بعض الكلمات ولكنني
سأذكرها صراحة ، فالشاعـرذكرها قبلى وعلى ملأ ، وأنا الآن أعُيد
إلقائها على العالم وليس أمام المضيفة كما كان . فكما ذكرنا واجب
المؤرخ أن يعيد قـراءة التاريخ مرّة أخرى ليُضفي عليه من حاضره ما يلزمه وما قد يراه
مناسباً ليتفهمه الآخرون . أفاضَ الشعراء (الشُعّار والقصّادين) وسـالت منهم
الكلمات والمعاني الجميلة عندما إقتربوا من المرأة فى وصفهم ،
فكانت هى المعشوقة والمحبوبة ، الزوجة والمُلهمة فكانت هى
الهيكل الذى يُصلون لـه وينشدٌونَة ( صلوات إلى هيكل الحب ) ، وهى
اللوحة التى سرقت أفكارالرسام فراح يتغزل فيها بعد أن رسمها .
فهى لهذا الشاعر زينة بنات أفكاره وإحدى عرائس بنات العيد
. فهى التى عذبته وسمرته ، لوعته وسلبته عقله وقلبه
، فراح يهذي بأبيات وكلمات ومفردات وكثيـر من الدُرّر الـجميلة
، فأخذ يصفها ويصنفها ، يهدهدها ويدللّها
، يُغازلــها ويُبادلها النظرات (الخظرات) والكلمـات
، فهو بين صَد وهجَر ، وبين شوق وحُـرقة ،
بين تمنُّع وإباء ، وبين تذلّل وإنكسار ، فسلطان الحب ليس
عليه من سلطان .
عيني وان خطر غاليها **** تبكي ماعاد نوم يجيها
يا أم عيون مشارب موزر **** خليتين العقل تشوزر
* لم يترك هؤلاء الشُعَار فى المرأه صغيرة أوكبيرة إلّا
وأتوا على ذكرها ، الشعَر، العيون ، الهدَب ،
الحاجب ، الخد ، الجبين ، الأنف
، الأذن ، الأسنان ، الشفايف ، الرقبة
، الصدر ، الوسط ، الزراعان ،
الساقان ، الكعوب ، حتى مشيتها وخطوتها ، وما
ترتديه من أزياء وشالها الحريرالذى يهفهف على الكينار ، الكحل والمرود
، الحنة ، والحجول ، والمشط العظم
، والعقوص ، والطاقية المنقوشة بمّجَرات الذهب ،
الدملج ، والبرنوس ، الحياصا ، الوشم ( الدق ) .
أبو دملج خايل فى إيديه **** أنا والناس عناد عليه
* بهذا الترتيب سنعزف المقطوعة التالية : بو قرون
إن مشطيهن بمسك وطيب فاح عليّ ، الضفاير (الجدايل ) وصفها بالقرون لطولها
وكثافتها والمجدولة المضفورة بالعقوص والمسك والطيب ، تسع قرون
اللي مسفيّة والعاشر نازل جرجارة . وسالفها مهلوب أصفر وطوله
زايد على الشبرين ، السالف
* عشنا فى السطور السابقة مع ما جادت به قرائح هؤلاء
الشُعّار الجميلين ولنا أن ُنزيّن هذه اللوحة الرائعة بمصاغ الجميلات اللواتي كـَنْ
معنا ، فمصاغهُـن الدملج والسوار والخواتم والحنّة وذلك فى الذراع حتى
الكف ، ثم على الصدر الكردان والشعيرى والنميسة ،
والعقود ومنها من الأحجار الكريمة والذهب ، ثم الشناف فى الأنف
وهو كامل عند المتزوجة ، ومجرد دبلة بدل الشناف للبنت قبل الزواج ،
ثم الحـلق ، والعقوص المجدولة مع الضفاير ، ورأينا حزام من
الذهب وعقود من الذهب فى شكل حـبات الزيتون وفى القدم الحِجـِـل ،
الفضة منه ورأيت أيضاً منة الذهب ، والشال الحرير وأيضاً
الحُمَصاني والحياصا.
غلاك لا تخاف عليه ، مدسوس ـ مصيون بين عيني وهدبها
إحياصا فوق حرير أخضر****وفى إيديها ريت إسوارين
* أحياصا حزام من نسيج الحريرالطبيعي أو القماش
، وهو للمرأة لشَدْ الظهر ومن زينتها أيضاً ، وعند كبارالسن
يُطلقون عليه الحُمصاني ، للبنت قبل الزواج الأحمر منه ،
والأبيض للمتزوجات ، هذا ماكان فى القرن التاسع عشروما قبله ولكن
عندما بدأ العـرب فى الإستقراروكما تحدثنا كثيراًعلى
صفحات التاريخ ، تغيرت الأحوال الإقتصادية فتغير معها
نوع الحزام وإستخداماته ، وظهرالحزام الجلدي المنسوج من خيوط
الحريرالطبيعى والمشغول تماماً كما أدوات الخيل ، ولكن ينتهى عند
إلتقاء طرفيه من الأمام بكسوة من الجلد الطبيعي الراقي (الحور) وسيور وأبازيم
معدنية صغيرة ودقيقة ، ومُذوَد بجيوب صغيرة لحمل ماخف وزنه
وحجمه ، وكذلك لساعة الجيب ولتعليق المسبحة ومفاتيح الخزانة
، وأيضاً لقارورة العطر ( زيت الورد . المسك ) وقليل من أدوات الزينة
البسيطة والعاجلة ، من هذا الحزام تجود النسوة وتعطي ولا يخلو حزامها
من كل جميل . ويرتديه أيضاً الرجال ويضعون فى جيوبه علبة النشوق
،
تحضُرني طـُرفة عن الحزام ، حيث كانت إحدى جداتنا رحمها الله
( الحاجة نافلة ) تشكو من دوام عُطل ساعتها وتقول أنها تؤخر دائماً ،
وإحتار معها المُصلحّ مراراً حتى سمعنا بها ، فأدرك فى النهاية وبعد
طول تعجب أن الحاجة تضعها فى الحزام فتتعرض إلى ضغط الحزام على الجسم فتقف عقارب
الساعة نتيجة لضغط زجاجها عليها . مع تغيرالظروف الإقتصادية والحضارية
إنحسر هذا الحزام أيضاً وتم الإستعاضة عنه بالثوب ذو الوسط ، وكأن
هناك إصرارعلى تحزّيم المرأة أوإستمرارظهورها بهذا الشكل . ربما كان ضرباً من
الرشاقة .
تهون علينا فى المعالي نفوسنا *** ومن يَخطب الحسناء لم ُيغلِه المهُر
( أبو فِـراس الحَمَداني )
ـ وهكذا عـزيزى القارئ تمكنّا وبعون الله من لـَملمَة ما نُثرعلى
تلك الأبيات ، وما إزيَنتْ به هاتيك القصائد من دُرّر فى شكل مفردات
هى من الواقع الحقيقي لهؤلاء العُـرب ، وإن كانت تبدو للقارئ العادي
مُستغلقة ، إلاّ أن مفاتيحها تجَدونها فى مُداومة قراءة الموقع
وبخاصّة صفحات الفنون الشعبية ، فلا بد أن هناك من بيده فك هذه الحِزَم
من المعاني الجميلة . وفى النهاية تابعونا .