الفقهاء وتحريم القهوة ... الإلتباسات القديمة والإجتهادات والفتاوى
بينما كان الأمير المملوكي خاير بك حاكم مكة ( ربيع الأول 917 هـ ) من قبل السلطان قنصوه الغوري عائداً الى بيته ليلاً بعد الصلاة والطواف بالكعبة، شاهد جمعاً من الناس قد انتحوا جانباً من المسجد الحرام مستغرقين في كؤوس الشراب، وما إن شاهدوه حتى قاموا بإطفاء الفوانيس مما زاد من شكوكه. فلما سأل عن شرابهم أجيب بأنها القهوة التي جلبت حبوبها من اليمن والتي انتشر تناولها في مكة المكرمة في أماكن يرتادها الرجال وأحياناً النساء. وحينها قرر خاير بك اللجوء إلى ممارسة سلطاته التي كان من ضمنها الحسبة، فأمر بجمع كبار فقهاء مكة، وبعد أن شرح لهم تكرر اجتماع الناس في أماكن شرب القهوة مع ضرب العود والدف أحياناً فأفتوا بأن حب البن حكمه حب بقية النباتات. أما اجتماع الناس على شرب القهوة، فإنه حرام وعلى هذا فيجب أن يحرم شربها ، ولم يكتف خاير بك بهذا بل جمع شهادات أخرى لأطباء وأناس عاديين شهدوا أن القهوة « مفسدة للبدن المعتدل » وان شربها « يجر الى المعصية والى تغير الحواس والتباس العقل » ،وبعد أن استوجب خاير بك من الفقهاء شروط حرمة القهوة أمر أن ينادي المنادي في شوارع مكة بأن شرب القهوة محرم شرعاً ولهذا فقد توجب معاقبة شاربيها وتم اغلاق كل محال بيع القهوة واحراق حبوب البن كافة في مخازن التجار في مكة المكرمة ، وهكذا تم تحريم شرب القهوة التي اكتشفها اليمنيون واستعاضوا بها عن القات. بل ان الصوفية والدراويش والزهاد كانوا يلجأون اليها لمساعدتهم على السهر والتعبد ليلاً ، على أن أهالي مكة لم ينصاعوا تماماً الى قرار الفقهاء وخاير بك واستمروا في شربها سراً في بيوتهم اعتماداً على رأي مفتي مكة الذي وقف وحده ضد هذا القرار، غير أن خاير بك قبض على أحد « شاربي القهوة » وأمر بعقابه وتجريسه على ظهر حمار طاف شوارع المدينة ليكون عبرة لمن لا يعتبر ! لم يكتفِ فقهاء خاير بك بذلك بل أرسلوا الى العاصمة في القاهرة سؤالاً استنكارياً بغرض ان تؤدي الاجابة عنه الى تقوية موقفهم واستخدمت في السؤال عبارات من نوع « ان القهوة شراب يتم تعاطيه داخل المسجد الحرام في كؤوس وأن كثيرها يؤدي الى السكر وأن الأطباء قد شهدوا بأنها مفسدة للبدن » ، غير ان السلطان الغوري أبدى دهشته مما يحدث في مكة المكرمة، فقد كان شرب القهوة في القاهرة مباحاً بشهادة الفقهاء والأطباء أيضاً، الأمر الذي دفعه الى مخاطبة خاير بك بضرورة الرجوع عن قرار تحريم شرب القهوة مع الاستمرار في سياسته لمنع الفوضى الناجمة عن رواد المقاهي .
* وهكذا استعاد أهالي مكة حرية « شرب القهوة »، غير ان بعضهم لم يكتف بتناولها فقط بل كثيراً ما قاموا بأحداث شغب في شوارع المدينة، من ذلك ما حدث العام ( 930هـ - 1524م ) ليأمر قاضي مكة من جديد بإغلاق كل المقاهي، غير أنه لم يمنع شرب القهوة في المنازل وفيما بعد أعيد فتح المقاهي بعد استتباب حال الأمن وتعهد أصحابها إقرار النظام ، وكان من الطبيعي أن تنتقل المساجلات الفقهية حول شرب القهوة الى القاهرة من جديد سنة ( 930هـ - 1524م ) ، اذ طرح أحد الفقهاء سؤالاً استنكارياً جديداً على زملائه صيغ أيضاً بمهارة: «ما رأيكم في الشراب المسمى بالقهوة الذي يشرب في جماعة على أساس أنه مباح على رغم أنه السبب وراء حدوث أعمال الشغب فضلاً عن أنه يعصف بالرأس وضار جداً بالصحة، هل هو حلال أم حرام؟». وأرفق سؤاله في النهاية برأيه الشخصي بأن شرب القهوة حرام شرعاً ، وعلى رغم أن بقية الفقهاء لم يوافقوه الرأي، فإن ذلك قد جدد مسألة التحريم فقام أحد خطباء المساجد بمهاجمة القهوة وشاربيها بقسوة مما دفع مستمعيه الى مهاجمة أول مقهى صادفهم ليكسروا أواني القهوة ويشتبكوا مع رواده ، وازاء تصاعد الجدل من جديد حول القهوة عاد فقهاء القاهرة للاجتماع واعداد تقرير « نهائي » حولها وضرورة توعية المتعصبين والعامة، بل ان القاضي الذي ترأس الاجتماع قام بشرب القهوة بنفسه وتوزيع كؤوسها على زملائه للدلالة على صحة رأيهم ، على أن الغريب في الأمر أن الحديث عن تحريم شرب القهوة قد انتقل من مكة الى القاهرة ثم الى اسطنبول عاصمة الخلافة العثمانية، اذ تمكنت احدى سيدات البلاط العثماني من اقناع السلطان سليمان القانوني بأن يصدر مرسوماً في العام ( 950هـ - 1543م ) الى احدى القوافل المتجهة الى مكة المكرمة ينص على عدم السماح بشرب القهوة، غير ان أهالي المدينة لم ينصاعوا هذه المرة لأوامر السلطان العثماني ، واذا كانت فكرة تحريم القهوة انتقلت من مكة المكرمة الى القاهرة في العهد العثماني، فالثابت أنها انتقلت من جديد هذه المرة الى اسطنبول عاصمة الخلافة العثمانية. ففي عهد السلطان سليمان القانوني أقام شابان من الشام مقهى في منطقة «تخته قلعة» في اسطنبول وتردد الشبان الأتراك بكثافة على هذا المقهى كما وجد الشعراء والمثقفون - كما هي العادة - في المقهى متنفساً جديداً لهم لشرب القهوة واستمرار مناقشاتهم فضلاً عن لعب الشطرنج والنرد، وشيئاً فشيئاً تردد الناس من كل المستويات الوظيفية والاجتماعية على هذا المقهى وغيره من المقاهي التي انتشرت في المدينة الى درجة ان الكثير من ضباط السرايا والباشوات وكبار الموظفين قد أصبحوا رواداً دائمين للمقاهي في اسطنبول ، وبالطريقة نفسها التي حدثت في مكة والقاهرة انتقد الأئمة والوعاظ هذا الوضع الذي جعل المقاهي ملأى بروادها في الوقت الذي عانت المساجد قلة أعداد المصلّين ، ولم يحاول المتدينون والدراويش معالجة مسألة اكتظاظ المقاهي على حساب المساجد باعتبارها قضية تعالج عبر السياق الثقافي والسياسي والاجتماعي، بل لجأوا الى اشهار سيف التحريم من جديد فأصـدروا الفتاوى بأنها «محرمة شرعاً» وان اثم الذهاب الى المقهى أشد من الذهاب الى الحانة. ولم يكتفوا بذلك بل استصدروا أمراً من مفتي اسطنبول بتحريم شرب القهوة لمخالفتها الشرع الاسلامي .
* وهكذا أغلقت المقاهي في اسطنبول وبدأ رجال الأمن في مطاردة شاربيها، غير ان سكان المدينة وكما فعل سكان مكة والقاهرة من قبل استمروا في شرب القهوة سراً في منازلهم . والمثير في الأمر انه في عهد السلطان العثماني مراد الثالث، جرى تجديد الفتوى بحرمة شرب القهوة الى ان تم تعيين مفتٍ جديد لمدينة اسطنبول، ويبدو ان الرجل هذه المرة كان يتمتع بأفق أكثر سعة من سابقيه وهو ما جعله يعلن أن شرب القهوة غير محرم شرعا،ً مما أعاد الأمور الى نصابها في عاصمة الخلافة الإسلامية .
بقلم
أ . د . حاتم الطحاوى